روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} "رواه أبو داود بإسناد صحيح وأخرجه الحاكم في مستدركه" وقد افتتح بها الصحابة كتاب اللّه، ولهذا تُستحب في أول كل قولٍ وعمل لقوله عليه السلام: (كل أمر لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرحمن الرحيم فهو أجذم) فتستحب في أول الوضوء لقوله عليه السلام: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه) "رواه أحمد وأصحاب السنن من رواية أبي هريرة مرفوعا" وتستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وأوجبها آخرون، وتستحب عن الأكل لقوله عليه السلام: ( قل: بسم اللّه، وكلْ بيمينك، وكلْ ممّا يليك) "رواه مسلم في قصة عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم"وتستحب عند الجماع لقوله عليه السلام: (لو أنَّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم اللّه، اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقدَّر بينهما ولدٌ لم يضره الشيطان أبداً) "رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم " والمتعلق بالباء في قوله بسم اللّه منهم من قدّره باسم تقديره: باسم اللّه ابتدائي، ومنهم من قدّره بفعل تقديره: أبدأ باسم اللّه، أو ابتدأت باسم اللّه، وكلاهما صحيح فإن الفعل لا بدَّ له من مصدر، فلك أن تقدّر الفعل ومصدره، فالمشروعُ ذكر اسم اللّه في الشروع في ذلك كله تبركاً وتيمناً واستعانة على الإتمام والتقبل، ويدل للأول قوله تعالى: {بسم الله مجريها ومرساها} ويدل للثاني قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}.
واللّه علمٌ على الربّ تبارك وتعالى يقال إنه الاسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلى هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} الآيات، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات كما قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} وقال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وفي الصحيحين: (إنّ للّه تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة) "رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم " وهو اسم لم يسمّ به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف له - في كلام العرب - اشتقاقٌ، فهو اسم جامد وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي و الغزالي و إمام الحرمين وقيل: إنه مشتقُّ من أله يأله إلاهةً، وقد قرأ ابن عباس {ويذرك وإلاهتك} أي عبادتك، وقيل: مشتقُّ من وله إذا تحيّر، لأنه تعالى يحير في الفكر في حقائق صفاته، وقيل: مشتقُّ من ألهتُ إلى فلان: أي سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته، لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال تعالى: {ألا بذكر اللّهِ تطمئنُ القلوب}، وقد اختار الرازي أنه اسم غير مشتق البتة، وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء.
{الرحمن الرحيم} اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، و{رحمن} أشد مبالغة من {رحيم} وزعم بعضهم أنه غير مشتق، قال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما روي في الحديث القدسي: (أنا الرحمن خلقتُ الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته) "أخرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم"قال القرطبي: وهذا نصٌ في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب لاسم {الرحمن} لجهلهم باللّه وبما وجب له، وبناء فعلان ليس كفعيل، فإن فعلان لا يقع إلاّ على مبالغة الفعل نحو قولك رجلٌ غضبان للممتلئ غضباً، و فعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال ابن جرير: {الرحمن} لجميع الخلق، {الرحيم} بالمؤمنين، ولهذا قال تعالى {الرحمن على العرش استوى} فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعمّ جميع خلقه برحمته، وقال: {وكان بالمؤمنين رحيما} فخصهم باسمه الرحيم. فدلّ على أن {الرحمن} أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، و {الرحيم} خاصة بالمؤمنين، واسمه تعالى {الرحمن} خاص لم يسم به غيره، قال تعالى: {قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن} وقال تعالى: {أجعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبدون}؟ ولما تجرأ مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه اللّه جلباب الكذب وشهر به، فلا يقال إلا مسيلمة الكذّاب فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر والمدر.
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن لأنه أكّد به، والمؤكِّدُ لا يكون إلا أقوى من المؤَكَّد، والجواب أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت ولا يلزم ما ذكروه، فإن قيل: فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد قيل: إنه لمّا تسمّى غيره بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك، فإنه لا يوصف بـ {الرحمن الرحيم} إلا اللّه تعالى، كذا رواه ابن جرير عن عطاء ووجّهه بذلك واللّه أعلم.
والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم اللّه و الرحمن و الخالق و الرازق ونحو ذلك، وأما الرحيم فإن اللّه وصف به غيره حيث قال في حق النبي: {بالمؤمنين رءوفٌ رحيم}، كما وصف غيره ببعض أسمائه فقال في حق الإنسان: {فجعلناه سميعا بصيرا